فصل: مسألة نكل ولاة الدم في العمد:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة توبة القاتل:

وسئل عمن كتب إليه والٍ في قتل رجل فقتله ثم أراد التنصل والتوبة فعرض نفسه على أولياء المقتول وأخبرهم، فقالوا له لسنا بقاتليك، إنا نخاف إن قتلتاك عاقبة ذلك ممن وراءك يعنون الموالي فعرض عليهم الدية فأبوا أن يقبلوها.
قال: أحب إلي أن يؤدي ديته إليهم وأن يعتق الرقاب وأن يبكي وأن يتقرب إلى الله بالدعاء والرغبة إليه ويلحق بهذه الثغور، ويحج ويكثر من العمل الصالح ما استطاع، فإن لم يقبل الدية فليعتق وليصنع هذا، ويمكن من نفسه ويتصدق بما استطاع ويكثر الحج والغزو وإن استطاع أن يلحق بهذه الثغور ويكون فيها أبدا حتى يموت بها فهو أحب إلي وما الدية عندي بالقوي.
قال محمد بن رشد: اختلف السلف ومن بعدهم من الخلف في قبول توبة القاتل، وإنفاذ الوعيد عليه على قولين، فمنهم من ذهب إلى أنه لا توبة له، وأن الوعيد لاحق به، فممن روي ذلك عنه ابن عمر وابن عباس وأبو هريرة أنهم قالوا لمن سألهم عن ذلك هل يستطيع أن يحييه؟ هل يستطيع أن يبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء؟ وإن ابن عمر سئل عن ذلك فقال: ليستكثر من شرب الماء البارد، وإن ابن عباس سئل عن ذلك فقال للسائل كالمتعجب من ذلك: ماذا تقول؟ فأعاد عليه قوله، فقال ماذا تقول مرة أو ثلاثا، ثم قال: ويحك وأنى له بالتوبة؟. وإلى هذا ذهب مالك فيما روي عنه من أن إمامة القاتل لا تجوز وإن تاب، ويؤيد هذا المذهب ما روى من أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ قال: «كل ذنب عسى الله أن يعفو عنه إلا من مات كافرا أو قتل مؤمنا متعمدا» وذلك- والله أعلم- لأن القتل يجتمع فيه حق الله تعالى وحق للمقتول المظلوم، ومن شرط صحة التوبة من مظالم العباد تحللهم ورد التباعات إليهم، وهذا ما لا سبيل للقاتل إليه إلا بأن يدرك المقتول قبل موته فيعفو عنه، ويحلله من قتله إياه طيب بذلك نفسه، ومنهم من ذهب إلى أن القاتل في المشيئة وأن توبته مقبولة، ومن روي ذلك عنه ابن عباس وأبو هريرة وعلي بن أبي طالب ومجاهد وغيرهم من السلف، وخص مالك في هذه الرواية للقاتل أن يعتق الرقاب ويبكي ويتقرب إلى الله تعالى بالأعمال الصالحة ويلزم الثغور والجهاد دليلا على الرجاء عنده في قبول توبة القاتل خلاف ما روي عنه من أن إمامته لا تجوز وإن تاب، ولكلا المذهبين وجه من النظر، وكفى باختلاف الصحابة في ذلك، فقل ما تجدهم يختلفون إلا فيما يتعارض فيه الحج وتتكافأ فيه الأدلة، فينبغي لمن لم يواقع هذا الذنب العظيم أن ينتهي عنه ويستعيذ بالله منه مخافة أن لا يصح له متاب إن واقعه فيحق عليه سوء العذاب ويناله شديد العقاب، ولمن واقعة أن يتوب إلى الله ويستغفره ولا يأس من رحمته فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون، وقد كان ابن شهاب إذا سئل هل للقاتل توبة يتعرف من السائل هل قتل أم لا ويطاوله في ذلك، فإن تبين له منه أنه لم يقتل قال له لا توبة له، وإن تبين له من أنه قد قتل قال له توبة، وإن هذا لحسن من الفتوى، وأما من قال إن القاتل مخلد في النار أبدا فقد أخطأ وخالف السنة لأن القتل لا يحبط ما تقدم من إيمانه ولا ما اكتسب من صالح أعماله؛ لأن السيئات لا تبطل الحسنات، ومن مات على الإسلام فلابد أن يجازيه الله على حسناته، فإنه يقول وقوله الحق: {وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 35] وقال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] وقال: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ} [الأنبياء: 94] وقال: {فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} [الأنبياء: 47] ومن مثل هذا في القرآن كثير.
واختلف أهل العلم أيضا في القصاص من القاتل هل يكفر عنه إثم القتل أم لا. على قولين، فمنهم من ذهب إلى أنه يكفر عنه بدليل قول النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ «الحدود كفارات لأهلها» فعم ولم يخص قتلا من غيره، ومنهم من ذهب إلى أنه لا يكفره عنه؛ لأن المقتول مظلوم لا منفعة له في القصاص، وإنما هو منفعة للأحياء عن القتل، وهو معنى قول الله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] فيكون القصاص في القتل على هذا القول مخصصا من حديث عبادة: «الحدود كفارات لأهلها» ويبقى الحديث مخصصا فيما هو حق الله تعالى لا يتعلق فيه حق المخلوق وفي قول مالك في هذه الرواية دليل على القولين جميعا قوله في أولها أحب إلي أن يؤدي ديته إليهم يدل على أن القتل يكون كفارة له لأنه رآه حقا لأولياء المقتول تنوب عنه الدية إذا رضوا بها، وقوله في آخر المسألة وما الدية عندي بالقوي يدل على أنها لا تنوب مناب القصاص منه في الانتفاع به في الآخرة وبالله التوفيق.

.مسألة نكل أحد من أولياء الدم عن القسامة في دم الخطأ:

قال سحنون وعيسى: قال ابن القاسم: إذا نكل المدعى عليهم في الخطأ غرموا الدية والقاتل كرجل منهم، ولا يستحلف هو، وفي سماع عيسى فإن نكل أحد من أولياء الدم عن القسامة في دم الخطأ فهو حق قد وجب على عاقلة المدعي عليهم فليس يبريهم إلا اليمين لو كانوا عشرة آلاف، فمن حلف منهم سقط عنه بقدر ما يصيبه، ومن نكل غرم ما يقع عليه.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم في رواية سحنون وعيسى عنه إذا نكل المدعي عليهم في الخطأ غرموا الدية والقاتل كرجل منهم يريد بالمدعي عليهم العاقلة كلها.
وقوله ولا يستحلف هو معناه ولا يستحلف هو وحده بل يحلف مع جميع العاقلة فيما يجب عليه من الدية، كما يحلف كل واحد منهم فيما يجب عليه منها.
وقوله في رواية عيسى عنه وحده فإن نكل أحد من أولياء الدم عن القسامة في دم الخطأ فهو حق قد وجب على عاقلة المدعي عليهم يريد أن حظ من نكل عن اليمين من الورثة من الدية قد وجب على جميع العاقلة ولو كانوا عشرة آلاف والقاتل كرجل منهم، فمن حلف منهم سقط عنه ما يصيبه من ذلك، ومن نكل غرم ما يصيبه منه، ومن حلف من أولياء الدم وهم الورثة فقد استحق ما يجب له من الدية على جميع العاقلة والمدعي عليه كرجل منهم، وإنما يستحق منهم ما يجب له من الدية بعد أن يستكملوا جميع الأيمان، لأن من نكل من الورثة عن اليمين فهو بمنزلة من غاب لا يستحق من حضر حظه من الدية حتى يحلف جميع الأيمان، فإذا جاء من غاب حلف ما يجب عليه من الأيمان واستحق حظه من الدية، وإن نكل عن اليمين فكما قال في الرواية يكون حظه من الدية على جميع العاقلة، ولو كانوا عشرة آلاف والمدعي عليهم كرجل منهم فمن حلف منهم سقط عنه ما يجب عليه من ذلك، ومن نكل غرم ما يجب عليه منه، فليس قول ابن القاسم في سماع عيسى عنه بخلاف لما قبله من رواية سحنون وعيسى عنه، وإنما تكلم أولا على نكول الورثة، وتكلم آخرا على نكول العاقلة أيضا بعد نكول الورثة فقال إن جميع العاقلة والمدعى عليه الدم يحلفون في جميع الدية، ولو كانوا عشرة آلاف إذا نكل جميع الورثة وفيما بقي من الدية، ولو كانوا عشرة آلاف أيضا إذا نكل بعض الورثة وحلف بعضهم.
وفي سماع سحنون خلاف هذا القول أنه لا يحلف من العاقلة في الوجهين جميعا إلا خمسون رجلا يمينا لأنها جميع أيمان القسامة، فإن حلف منهم خمسون رجلا برئوا وسقطت الدية، وإن حلف بعضهم برئ من حلف معهم من الدية ووجبت الدية كلها على من بقي منهم إلا أن يأتوا بمن يحلف ما بقي من الخمسين يمينا، ولو حلف منهم تسعة وأربعون رجلا يمينا وبقيت يمين واحدة من الخمسين يمينا كانت الدية كلها على من لم يحلف حتى يأتوا منهم بمن يحلف اليمين الباقية من الخمسين، هذا معنى قوله في سماع سحنون مفسرا، وله فيه قول آخر مثل ما في هذه الرواية أن جميع العاقلة والمدعي عليه الدم يحلفون كلهم إذا نكل الورثة عن اليمين، وفي المسألة قول ثالث أنهم إن نكلوا لم يكن لهم شيء، وإن نكل بعضهم وحلف بعض لم يكن لمن نكل منهم شيء، ولا ترجع الأيمان على العاقلة لأن الدية لم تجب عليهم بعد، وإنما تجب بالفرض وهو قول ابن الماجشون، وفي المسألة قول رابع أنهم إن نكلوا حلف المدعي عليه الدم وحده، فإن حلف سقطت الدية عنه وعن جميع العاقلة، وإن نكل لزمه ما يلزم واحدا من العاقلة ولم يلزم العاقلة بنكوله شيء؛ لأن نكوله كالإقرار والعاقلة لا تحمل الإقرار، لأنه بنكوله شاهد على العاقلة، وهو قول مالك في رواية ابن وهب عنه، وفي المسألة قول خامس أن الأيمان ترد على العاقلة، فإن حلفت برئت وإن نكلت عن اليمين غرمت نصف الدية قاله ربيعة، وهو قول على ما روى عن عمر بن الخطاب في قضائه على السعدين وبالله التوفيق.

.مسألة نكل ولاة الدم في العمد:

وفي سماع سحنون قال ابن القاسم: إذا نكل ولاة الدم في العمد ردت الأيمان على أولياء القاتل، فإن حلف منهم خمسون رجلا خمسين يمينا برئ، ولم يكن على المدعي عليه أن يحلف معهم، ولا يجبر هؤلاء على الأيمان إلا أن يتطوعوا، فإن لم يجدوا خمسين رجلا ووجدوا أقل من ذلك العدد حلفوا خمسين يمينا إذا أطاعوا بحملها كلها وردت عليهم حتى يستتموا، فإن أبوا أن يحملوها كلها، وقالوا نحن نحمل بعضها واحمل أنت بقيتها، فليس ذلك لهم إما حملوها كلها ولا يكون على المدعي عليه منها شيء، وإما أن تسقط عنهم ويحملها المدعى عليه كلها وحده ويبرأ، فإن أبى سجن حتى يحلف، قال ابن القاسم ولا يحلف عنه أقل من رجلين.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة فيها ثلاثة أقوال:
أحدها- هذا وهو قول ابن القاسم في كتاب ابن المواز.
والثاني- أن الأيمان ترد على المدعى عليهم فيحلف منهم رجلان أو أكثر خمسين يمينا تردد الأيمان عليهم ويحلف فيهم المتهم، فإن نكلوا أو لم يوجد غير المتهم لم يبرأ حتى يحلف خمسين يمينا وحده، وهو قول ابن القاسم في المجموعة.
والثالث- أن المدعى عليه يحلف وحده ولا يكون له أن يستعين بأحد من ولاته في الأيمان كما يكون ذلك لولاة المقتول، وهذا قول مطرف في الواضحة وظاهر ما في رسم أول عبد من سماع يحيى وما في المدونة من قول ابن القاسم، وروايته عن مالك، وهذا القول أظهر الأقوال من جهة القياس، لأن المدعي عليه حقيقة هو الذي يدعى عليه القتل ويطلب منه القصاص ويتعلق به حكم بالنكول، فوجب أن يكون هو الذي يحلف وحده لقول النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ: «البينة على من ادعى واليمين على من أنكر».
وللقولين الآخرين حظ وافر من النظر، وهو أنه لما كانت الدماء تقع فيها الحمية والعصبة صار عصبة المقتول هم الطالبون بدم المقتول بحق التعصيب لا بحق الوراثة، وصار عصبة القاتل هم المطلوبون معه لتعصبهم له ودفاعهم عنه، ووجب أن ترجع الأيمان إذا نكل عنها عصبة المقتول على عصبة القاتل إذ هم المطلوبون بما فعل وليهم، بدليل «قول النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ للحارثيين في قتيلهم الذي قتل بخيبر أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم؟ فلما قالوا له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كيف نحلف ولم نشهد ولم نحضر؟ قال فتبريكم يهود بخمسين يمينا» فعمهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بالأيمان لما كانوا هم المدعى عليهم بأن صاحبهم قتل، فرأى ابن القاسم في الرواية الواحدة من حق القاتل أن يستعين في الأيمان بعصبة الذابين عنه المتعصين له المناصبين دونه كما كان من حق القريب من عصبة المقتول أن يستعين في الأيمان بالبعيد منهم.
ورأى في الرواية الأخرى من حق عصبة القاتل إذا ردت عليه الأيمان أن يتحملوها عنه ويحلفوها دونه إن دعوا إلى ذلك لجدهم في الدفاع عنه لما يزعمون من صحة يعنيهم ببراءته من قتله، فإن أبوا أن يحملون عنه جميعا وأرادوا أن يعينوه فيها بأن يحملوا عنه بعضا لم يمكنهم من ذلك لما تبين بمشاحتهم في ذلك من ضعف يقينهم في أنه بريء مما ادعى عليه وبالله التوفيق.

.مسألة كان بعض عاقلة القاتل في غير الإقليم الذي هو به:

وعن الذي يقتل خطأ وبعض العاقلة بأطرابلس وبها قتل وبعضهم بأفريقية وهم كثير والذين بأطرابلس نفر يسير فهل يضم الذين بأطرابلس إلى الذين بإفريقية أو حتى يستوعب الدية بأفريقية، قال: أرى أن يضم بعضهم إلى بعض.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح على ما في المدونة لأن أفريقية وطرابلس إقليم واحد، فوجب أن يضم من بأفريقية من عاقلة القاتل إلى من بطرابلس منهم، ولو كان بعض عاقلة القاتل في غير الإقليم الذي هو به، مثل أن يكون قتل القاتل في غير الإقليم الذي هو به، مثل أن يكون قتل بمصر وقومه بالشام أو بالشام وقومه بالعراق فعقل عنه أقرب القبائل إليه من الإقليم الذي هو من أهله، ولا يضم إليه أحد من عاقلته إذا كانوا في إقليم آخر، هذا قوله في المدونة وهو معنى قوله في هذه الرواية والله الموفق.

.مسألة عفا أحد الأولياء عن الدم بعد وجوبه بالبينة أو بالقسامة:

قال ابن القاسم في رجل قتل وله ابنان وترك خمسمائة دينار ناضة وعليه دين خمسمائة دينار وعفا أحد الابنين عن القاتل بلا شيء فقضى على القاتل للذي لم يعف بنصف الدية.
قال ابن القاسم يقسم الخمسمائة الدين على الخمسمائة الناضة والخمسمائة الدية فيكون نصفها في الخمسمائة التي أخذ، هذا وهو مائتان وخمسون ويكون بقيتها له خاصة، فلا يدخل عليه فيها أخوه لأنه عفا، وتكون المائتان والخمسون الباقية تمام الدية في الخمسمائة الناضة، ويكون بقية الخمسمائة الناضة ميراثا بين الابنين، قال: وإن كانت الثلث والثلثين فعلى هذا الحساب، قال: وقد بلغني ما فسرت لك في هذه المسألة عن مالك إلا في القود.
قال محمد بن رشد: قوله: فقضى على القاتل للذي لم يعف بنصف الدية صحيح على مذهبه وروايته عن مالك إنه إذا عفا أحد الأولياء عن الدم بعد وجوبه بالبينة أو بالقسامة فلمن لم يعف حظه من الدية، وقد مضى تحصيل الاختلاف في ذلك في أول رسم من سماع أشهب قبل هذا.
وقوله: إن الخمسمائة الدين تقسم على الخمسمائة الناضة والخمسمائة الدية فيكون نصفها في الخمسمائة الدية، ويكون بقيتها له خاصة لا يدخل عليه فيها أخوه الذي عفا ويكون نصفها في الخمسمائة الناضة، ويكون الباقي منها ميراثا بين الابنين صحيح على ما قاله، لأنه يجب على كل واحد منهما من الدين بقدر ما صار له من المال، فالذي عفا لم يصر له إلا مائتان وخمسون نصف الخمسمائة الناضة والذي لم يعف صار له مائتان وخمسون نصف الخمسمائة الناضة وخمسمائة حظه من الدية، فذلك سبعمائة وخمسون ثلاثة أمثال ما صار للذي عفا فيجب عليه من الدية ثلاثة أرباعه ثلاثمائة وخمسة وسبعون فتبقى له ثلاثمائة وخمسة وسبعون، ويجب من الدين على الذي عفا ربعه مائة وخمسة وعشرون فيبقى له مائة وخمسة وعشرون، فهذا بيان ما قاله، وبالله التوفيق.

.مسألة جرحه رجل ثم ضربته دابته فلم يدر من أي الأمرين كان حتفه:

ومن كتاب العرية:
وسئل عن رجل جرحه رجل ثم ضربته دابته فلم يدر من أي الأمرين كان حتفه.
قال: أرى نصف الدية على عاقلة الجارح، قلت بقسامة أم بغير قسامة؟ قال أرأيت قسامة في نصف دية؟
قال محمد بن رشد: المعنى في هذه المسألة أن جرح الرجل له وضرب الدابة إياه كان في فور واحد ومات لحينه، فحمل أمره على أنه مات من الأمرين جميعا لاحتمال موته من كل واحد منهما احتمالا واحدا، لا يمكن أن يغلب أحدهما على صاحبه، ولابن القاسم في المجموعة أن في ذلك القسامة، قال: وهو كمرض المجروح بعد الجرح، يريد أن أولياء الميت يقسمون لمات من جرح الرجل إياه ويستوجبون جميع ديته على العاقلة إن كان الجرح خطأ أو الاستفادة منه إن كان الجرح عمدا، فإن لم يقسموا على هذا القول لم يكن لهم شيء.
قال: ومن شج موضحة فتراخى به برؤه حمى سقط عليه جدار فقتله أو قتل إن له نصف عقل الموضحة وذلك عندي من أجل أنه لا يدري لعله إنما مات من الموضحة ولو جرحه أولا ثم ضربته ذلك فلم يدر من أي الأمرين مات لكانت في ذلك القسامة والدية في الخطأ أو القصاص في العمد قولا واحدا؛ لأن الظاهر أنه مات من الأمر الآخر بمنزلة إذا جرح ثم مرض فمات وبالله التوفيق.

.مسألة الرجل يجرح ثم يمرض فيموت:

قال وفي كتاب الصلح في الرجل يجرح ثم يمرض فيموت إن فيه القسامة.
قال محمد بن رشد: الدية على العاقلة في الخطأ، والقصاص في العمد، وهذا ما لا اختلاف فيه، لأنه لوحيي بعد الجرح حياة بينة ثم مات من غير أن يمرض لكان هذا هو الحكم فيه فكيف إذا مرض؟ وهذا إذا أثبت الجرح بشهادة شاهدين، وصفة اليمين في هذا أن يحلفوا لمات من الجرح الذي أصابه به لا من المرض الذي دخل عليه بعد ذلك، وسيأتي في أول نوازل سحنون الاختلاف ما إذا لم يشهد على الجرح إلا شاهد واحد ونتكلم على معناه- إن شاء الله-.

.مسألة رجل قتل عمدا فأوصى أن تقبل ديته وأوصى بوصايا:

وقال في رجل قتل عمدا فأوصى أن تقبل ديته وأوصى بوصايا.
قال: ذلك جائز وتكون وصاياه فيمن يؤخذ من ديته وتكون الدية كغيرها من ماله.
قلت: أرأيت إن أوصى بالدية كلها لقوم بعد أن تقبض وليس له مال غيرها أتجوز وصيته فيها كلها كما كان يجوز له أن يعفو عن القتل والدية؟ فقال: لا يجوز له إلا في الثلث.
قال محمد بن رشد: قوله في الذي أوصى أن تقبل ديته وأوصى بوصايا إن وصاياه تكون فيما يؤخذ من ديته، وهو مثل ما قاله في أول رسم من سماع أصبغ من كتاب الوصايا، وإنما يصح ذلك على قياس القول بأنه إذا عفا عنه على الدية أو أوصى أن يعفا عنه على الدية إن ذلك يلزمه، وأما على القول بأن ذلك لا يلزمه إلا برضاه وهو المشهور من مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك فلا يدخل فيها الوصايا، وإن أوصى أن تقبل، إذ ليس على يقين من أنه يرضى بذلك، كما لو قال: إن قبل ولاتي ديتي فوصيتي فيها، إذ ليس على يقين من قبول ولاته لديته.
وإنما لم تجز وصيته بالدية كلها إذا لم يمكن له مال غيرها، وإن كان يجوز له أن يعفو عن القتل والدية من أجل أن الدية ليس بمال للميت، غير أن السنة قد أحكمت أن يحكم لها بحكم مال الميت إذا قبلت، فلما لم تكن مالا للميت قبل أن تقبل كان للميت أن يعفو عنها، ولما صار حكمها إذا قبلت حكم مال الميت وجب أن لا تجوز وصيته، إذا أوصى بها لقوم إلا أن يحملها ثلثه، فإن لم يحملها ثلثه جاز لهم منها ما حمله الثلث وبالله التوفيق.

.مسألة اتبعه الناس وهو قاتل فاقتحم بيتا فيه ثلاثة نفر لا يدري أيهم هو:

وعن رجل قتل إنسانا في وسط الناس، فاتبعه الناس وهو هارب فاقتحم بيتا، ودخلوا البيت بإثره فإذا فيه ثلاثة نفر لا يدري أيهم هو.
قال إن حلف كل واحد منهم خمسين يمينا أنه لم يقتله كان العقل عليهم ثلاثتهم، وإن نكل أحدهم كان العقل على من نكل.
قلت له: فإن حلفوا ثلاثتهم أنهم براء من قتله كيف تستحق عليهم الدية بقسامة أم بغير قسامة أو نكل أحدهم عن اليمين أيقسم عليه أم لا؟ قال بل تكون عليهم الدية بغير قسامة.
قال محمد بن رشد: قوله في آخر المسألة قال بل تكون عليهم الدية بغير قسامة، إنما هو جواب قلت له فإن حلفوا ثلاثتهم أنهم براء من قتله كيف تستحق عليهم الدية بقسامة أم غير قسامة لا جواب لقوله أو نكل أحدهم عن اليمين أيقسم عليه أم لا؟ لأنه لم يقع على ذلك جواب.
والجواب على ذلك إنما هو أنه لا يقسم على من نكل لأن اليمين في هذا لا ترجع في النكول على أولياء المقتول؛ لأن القتل قد ثبت على أحدهم من غير تعيين، فإن حلفوا كلهم أو نكلوا كلهم كانت الدية عليهم جميعا، وإن حلف بعضهم ونكل بعضهم عن اليمين كانت الدية على من نكل منهم واحدا كان أو اثنين، ولا يمين في شيء من ذلك كله على أولياء القتيل، وإيجاب القسامة على كل منهم هو على ما تقدم في تأخير العشاء من سماع ابن القاسم في أن المتهم بالدم يستحلف خمسين يمينا، لأن كل واحد منهم متهم بالدم إذ لم يعلم من هو القاتل منهم، هذا مذهب ابن القاسم في هذه المسألة، وسحنون يقول: إنه لا شيء عليهم، وشهادة البينة أنهم رأوه دخل فيهم ولا يعرفونه بعينه باطل.

.مسألة قال أحد عبدي حر وهو صحيح مسلم فقتل أحدهما:

وسألته عن رجل قال أحد عبدي حر وهو صحيح مسلم فقتل أحدهما أو قتلا جميعا أو مات أحدهما وبقي الآخر وكان الذي قتلهما رجل واحد أو رجلان قتل كل واحد منهما رجل قبل أن يعلم بعتق واحد منهما، فقال السيد حين قتل الواحد، وبقي الآخر: إن المقتول هو الذي كنت أعتقته، وقال القاتل: أنت كاذب ومدعي الدية ومدرئ عن نفسك عتق هذا الباقي فلا يقبل قولك.
قال ابن القاسم القول قول السيد ويكون على القاتل قيمته عبدا ويصدق فيما زعم أنه كان أعتقه ولا يصدق في الدية، ويسترق الباقي منهما إذا ادعى السيد أن المقتول هو الذي أراد بالعتق، قال سحنون في العتق مثله إن القول قوله بعد أن يحلف بالله ما أردت إلا الميت ثم لا يكون للآخر من العتق شيء، وإن قال أردت الباقي حلف وعتق أيضا من جميع المال، وقال سحنون: ولو كان هذا القول منه في الصحة مثبتا بالبينة ثم قال في مرضه لم أكن أردت واحدا منهما بعينه عتق هذا الباقي من رأس المال وفيه تنازع، وهذا أصح ما نعلمه وبالله التوفيق.
قال عيسى: وقال لي: فقس ذلك بالرجل يقول إحدى امرأتي طالق فتموت إحداهما فيدعي الزوج أن الميتة هي التي أراد بالطلاق أن القول قوله ويمسك الباقية.
قال: ولو قال أيضا في العبدين لم أكن أعتقت بعد واحدا منهما حتى قتل إن الباقي من العبدين يعتق عليه، وتكون دية المقتول قيمة عبد.
قلت فلو قتلهما جميعا رجل واحد؟ فقال: إن السيد قد كنت أعتقت أحدهما كان على القاتل قيمتهما أيضا عبدين، ولو قال السيد: لم أكن أعتقت واحدا حتى قتلا لم يكن على قاتلهما إلا قيمتهما عبيدا أيضا؛ لأنهما عبيد حتى يعتق أحدهما بعد قوله أحدكما حر، قال: وسواء قتلهما واحد أو قتل كل واحد منهما رجل إن قال: لم أكن أعتقت منهما أحدا حتى قتلا لم يكن على قاتلهما إلا قيمتهما عبدين وقال قد كنت أعتقت أحدهما كان أيضا على ذلك لم يكن على قاتلهما إلا قيمتهما عبدين.
قلت أرأيت إن كان قال ذلك في وصية قال أحد عبيدي حر فقتل أحدهما أو جميعا قتلهما رجل واحد، وقتل كل واحد منهما واحد قيل أن يقوما ويعتقا.
قال ديتهما أبدا دية عبيد حتى يحكم فيهما بالعتق لأنهما لا يعتقان حتى يقوما، وإن قتل أحدهما أو مات وبقي الآخر فإنه يعتق في ثلث ما بقي، ويكون الذي مات منهما أو قتل كمن لم تكن فيه وصية، وهو بمنزلة الذي يقول عبد من رقيقي حر ثم يموتوا كلهم إلا واحدا أو مات منهم يكون كمن لم تكن فيه وصية ويعتق هذا الباقي في ثلث ما بقي من مال الميت.
قال محمد بن رشد: تلخيص هذه المسألة أنه إن قتل أحدهما فقال أردت بالعتق الذي قتل أو الذي بقي صدق في الوجهين جميعا مع يمينه، لأنه إن قال: أردت الميت؛ اتهم على أنه أراد إرقاق الباقي، وإن قال: أردت الباقي اتهم على أنه أراد أن يجر إليه ميراث الميت بالملك، إن كان له ورثة أحرار، وإن قال لم أرد واحدا منهما لم يكن له أن يجعل العتق لمن مات أو أعتق الباقي على كل حال، هذا هو قوله في هذه الرواية وفي رسم الصبرة من سماع يحيى من كتاب العتق، وسواء قال: لم أرد واحدا منهما في صحته أو في مرضه على ما قاله سحنون، وقد حكى أن في ذلك اختلافا إذا قاله في مرضه، ويحتمل أن يكون الاختلاف الذي أشار إليه أن يعتق هذا الباقي، ويكون ما زادت قيمته على قيمة الميت في ثلثه.
وأما إن قتلا جميعا قتلهما رجل واحد أو رجلان فلا يصدق في أنه أراد واحدا منهما، ويكون على عاقلتهما قيمتهما عبدين، وإن كان قال ذلك في وصيته فقتلا جميعا كان على قاتلهما قيمتهما عبدين لأنهما عبدين حتى يقوما في الثلث، وإن قتل أحدهما أو مات فعتق الباقي منهما في الثلث وهو مما لا اختلاف فيه وبالله التوفيق.

.مسألة جنين النصرانية من العبد النصراني:

وسئل عن جنين النصرانية من العبد النصراني.
قال: هو حر ديته دية جنين الحر.
قلت فما دية جنين الحر المسلم من النصرانية إذا طرح أو العبد المسلم من النصرانية قال دية جنين الحرة من الحر المسلم نصف عشر دية أبيه المسلم، ودية جنين النصرانية الحرة من العبد المسلم نصف عشر دية المسلم الحر، وهو بمنزلة أن لو كان أبوه حرا؛ لأنه على دين أبيه.
قال محمد بن رشد: هذا كله بين على ما قاله؛ لأن الولد تبع لأبيه في الدين ولأمه في الحرية وبالله التوفيق.

.مسألة شج موضحة فاستؤنى به البرء فسقط عليه جدار فقتله:

ومن كتاب أوصى أن ينفق على أمهات أولاده:
قال: ومن شج موضحة فاستؤنى به البرء فسقط عليه جدار فقتله أو قتل: إن له عقل الموضحة.
قال محمد بن رشد: في المجموعة أن له نصف عقل الموضحة وقد ذكرنا ذلك في رسم العرية، وما في هذه الرواية من أن له عقل الموضحة أظهر، لأن الظاهر أنه مات من الأمر الآخر، ووجه ما في المجموعة أنه لما سقط عليه الجدار أو قتل قبل أن يبرأ من الموضحة لم يدر من أي الأمرين مات، وإن كان من الموضحة فلا يجب فيها شيء لأن الموت يأتي عليها، وإن كان من الأمر الآخر فالعقل فيها لازم فيجعل فيها النصف من أجل الشك، وهو ضعيف وبالله التوفيق.